ارتواء

منذ كنت طفلة صغيرة كنت لا أعطش إطلاقاً، فأنا لا أحس بالعطش، وعندما واجهت مشاكل جمة بسبب قلة شربي للماء مثل آلام الكلى والمرارة، وكثرة الحصوات، صرت أحاول بجد حل هذه الإشكالية، وهي عدم إحساسي بالعطش، وكنت أستشير كثير من الأطباء حول هذه المشكلة، وكان الكل يرشدني إلى أنها عادة سيئة وليست دلالة على أي نقص أو زيادة للمعادن أو الفيتامينات داخل الجسم عكس العطش الشديد الدائم الذي هو من دلالات نقص البوتاسيوم، لكن عدم العطش هو مجرد عادة سيئة يجب التخلص منها عبر إعادة جدولة، أو ترتيب أولويات، إضافة برامج للتذكير بشرب الماء، والبحث عن حلول.

مرّت الأيام، وأنا كعادتي أحب كثيراً الحلوى، ونظراً لرغبتي بالتركيز على نظام صحي بدون ترتيب وجبات وإنما عبر عادات غذائية أفضل، قررت تقليل السكريات المكررة، وبدمج التخلص من عادة سيئة وإبدالها بعادة جيّدة، قررت أن أشرب الماء خلال الوقت الذي أرغب به بالشوكولاتة أو المحليات. ومن هنا أعدت جدولة دماغي، فصرت أعطش.

كان العطش علامة واضحة على الارتواء الأولي، على الطريق للامتلاء ومن مبدأ الضد فكرت بالفراغ، وهنا انتقلت تلقائياً لتعريف ديكارت المحبب على قلبي، بأن الفراغ هو امتداد للمادة، فلايوجد بالكون فراغ، وإنما اختلاف محيطات، وندخل هنا على تفاسير الفراغ الفيزيائية التي تقول بانعدام المادة، فهل هنالك انعدام للمادة؟ بناء على فكر “لابينتس” الفيلسوف الألماني، فإن مفهوم الفراغ هو نابع من إدراكنا للأشياء. إدراكنا للمادة يجعلنا نعلم أن انعدامها يعني فراغ، ولو لم تكن هناك أشياء لما كان هناك وجود لمفهوم الفراغ. ولكن هل الفراغ فكرة أو حقيقة أم لاشيء، وكيف يكون الفراغ شيئاً وهو فراغ، وهو انعدام الشيئية؟ وانتقل اجابة على هذا السؤال لفلسفة “كانت” الذي يعتقد أن الفراغ مجرد اعتقاد يحدث باللاوعي نتيجة للوعي، فالفراغ هو عدم الفهم أو عدم قدرة العقل البشري على الاستيعاب نظراً لانعدام التجربة السابقة التي يستطيع الاسقاط عليها.

ومن هنا، يظهر انعدام الارتواء نظراً لعدم استيعاب عقلي المحدود على مفهوم العطش، واستبداله بما يعرفه واسقاط العطش على السكريات. فكيف برمجت ذاتي بذاتي بدون وعي منّي على مدى السنوات، وكيف بأقل من شهر استعطت بدون وعي منّي أيضاً إعادة تلك البرمجة لأي هذه الحقيقة، فالارتواء هو مااحتجته للإحساس بالعطش، والامتلاء هو مانحتاجه لنعي الفراغ.

الإعلان

عندما لا تتحرك الجمادات

أمضيت أسبوعاً أراقب جماداتي، حذائي الذي أخلعه في غير مكانه والذي يظل في المكان ذاته بعد مدة من الزمن ولايعود من تلقاء نفسه لمكانه في الخزانة، شنط المدرسة لأطفالي والتي تبقى بجانب الباب الخرجي، الأواني المتسخة على طاولة الأكل والتي أيضاً هي الأخرى لا تعود للمطبخ، بل وحتى النظيفة منها التي لاتقفز خفية من غسالة المواعين عائدة لأماكنها في الأدراج. كل هذه التفاصيل الصغيرة للجمادات التي بطبيعتها لا تتحرك، المنطقية جداً، كانت منافية للمنطق، بل وأستنكرها لوهلة زمنية قصيرة تليها دهشة وابتسامة ساخرة وكأنّي أقول بداخلي: يفترض أن أندهش وارتعب خوفاً لو فعلا ًتحركت هذه الجمادات، لكنّي في ظل غياب العاملة في بيتنا، صرت أندهش عندما لا تتحرك الجمادات حقاً!

خلال هذه الأفكار استرجعت مسلسلاً في نتفلكس، تحت اسم: Maid، مكوناً من عشر حلقات، عن أم عشرينية لطفلة ، تهرب وابنتها من صديقها السكّير المعنف لها، حيث أن مصدر رزقها هو العمل كمنظمة للمنازل. المسلسل من إنتاج نتفلكس يحكي عن حياة أليكس راسل تقوم بدورها سارة كوالي، وقد رأيتها لأول مرة على شاشات السينما في الفلم الغريب جداً بالنسبة لي، Once upon a time in Hollywood، حازت على جائزة الايمي لأفضل ممثلة لعام ٢٠٢٢. تبدأ أليكس العمل كمنظفة منزلية لإنقاذها وابنتها من التشرد.

يستند المسلسل إلى مذكرات ستيفاني لاند، بنفس العنوان ( Maid: Hard Work, Low Pay, and a Mother’s Will to Survive ). وقد تم إصدار الكتاب في عام 2019 ووصل إلى قائمة نيويورك تايمز لأفضل الكتب مبيعا. على الرغم من تغيير الأسماء للمسلسل، إلا أن الحبكة هي نفسها إلى حد كبير. مثل أليكس، بدأت ستيفاني العمل كخادمة لإعالة نفسها وطفلتها بعد فرارها من علاقة مضطربة. أمضت ستيفاني وستوري 90 يوما في مأوى للمشردين، تكافح من أجل العثور على عمل وغير قادرين على الحصول على منحة رعاية الأطفال نتيجة لبطالتها.

ذكرت ستيفاني عن مذكراتها: “في الكتابة، كنت آمل أن يغير الكتاب الوصمات التي تحيط بالأمهات العازبات، وخاصة أولئك الذين يعيشون في فقر. الوصمات التي تقول إننا نستحق المشقة بطريقة أو بأخرى بسبب القرارات الرهيبة التي اتخذناها للوصول بنا إلى هناك. كنت آمل أن يرى الناس مدى صعوبة عملنا لتغطية نفقاتنا، ومدى حبنا الشديد لأطفالنا. كم نكافح من أجل أن نكون كافيين بينما توبخنا الحكومة، وتخبرنا أننا أصبحنا نعتمد على الأشياء التي يسمونها صدقات، لكن نسميها وسائل للبقاء على قيد الحياة. آمل أيضا أن تبدأ في ملاحظة ملايين العمال الذين ينظفون بشكل خفي بحد متدني جداً للأجور”.

وفعلاً، بالرغم أنّي قد انتهيت من مشاهدة المسلسل مطلع هذه السنة، وتأثرت لحد ما به، نتيجة الاخراج الرائع والتمثيل والانتاج، إلا أنّ العبارة الأخيرة التي ذكرتها ستيفاني ظلت تلاحقني في الفترة الماضية، فكم هو مخيف الاعتياد، اعتياد الوجود أو اللاوجود، أن يكون الأثر هو الفاصل في وجودك، هو الاثبات على عملك وليس ذاتك، وهذه الفكرة المخيفة لاتقتصر فقط على الخدم بل تمتد لكافة أنواع العمال والموظفين، فأنت مجرد رقم للجهة التي تعمل بها، واثرك هو الفعّال والذي يمثّلك، حتى مع محاولة أنسنة الجهات وتحويل الإدارات لفرق عمل، وعوائل، يبقى الموظف لاوجود له بدون عمله، وهنا يبدأ الاضطراب، وتتخبط الحقائق، ويصبح التفكير بحركة الجمادات مخيفاً بل ودليلاً على جماد الانسان وقلة وعيه.

فهل الجمادات هي فعلاً جامدة وغير متحركة؟ أم نحن اعتدنا على جمودها؟ وماذا لو كان هذا العصر هو عصر حركة الجمادات؟ هل سنعتاد على ذلك ياترى؟

Cold Case Hammarskjöld

بداية جائحة كورونا عام ٢٠١٩ حيث بدأت بعض الأخبار تتصاعد عبر شبكات التواصل الاجتماعية، ولم ألق لها بالاً مثل أخبار أخرى تهمّ أصحاب السلطة لا الشعوب، فحبّي للحياة والمعيشة الهانئة لاتتعارض مع التصالح مع فكرة الموت. وعلى كل حال كان التصاعد تدريجياً ولم يتفاقم، أو بالأصح لم ألق له بالاً، إلا في مارس ٢٠٢٠ حين بدأ يُعطّل الحياة ويدخل إجبارياً في تفاصيل حياتنا اليومية، مثل العمل والمدارس عن بعد، والإجراءات الاحترازية مثل القفازات والكمامات، والحجر والعزل، والعديد من المصطلحات التي كان لها تجارب مباشرة مع الأفراد في تلك الفترة، وانتشار الخوف تبعاً لذلك مرتبط ارتباطاً تاماً ببعض الإجراءات والآخر بالمرض الفتّاك الذي صارت أعداده تتزايد كإصابات عالمية ووفيّات. وبالرغم من كل ذلك الخوف إلا أنه كانت لدي القناعة أن التصاعد والتفاقم الإعلامي الذي حدث، إما هو نهاية العالم فعلاً، أو أنه مدروس ومخطط له. وبكلا الحالتين لم أكن إلا شخصاً مسيّراً لا حول له ولاقوّة، ولاحتى أود الخوض في نقاش فكرة المؤامرة، والحروب البيولوجية، فلم يكن لديّ صراحة الاستنادات ولا حتى الأهمية للبحث في ذلك الأمر، فالحياة الحالية لدي أهم من الحياة المستقبلية فسأفعل مايملى علي حين يكون إجباراً أو قد يعطل مسار يومي. وهكذا تعاملت مع الجائحة. ومازلت. أخذت اللقاح الذي لم أكن على قناعة به منذ تم توفيره لسبب واحد، وهو أنه لو كان المرض من عائلة الانفلونزا فهو بالتالي موسمي، وستتكرر اللقاحات، وفعلاً أخذت الأول والثاني والثالث أيضاً. ارتديت الكمامة، والقفازات في بداية الجائحة.

هذه المقدمة على علاقة وثيقة بالعنوان الذي هو عبارة عن فلم وثائقي مدته ساعتين استغرق تصويره ٦ سنوات يحقق منتجيه في موت أمين عام الأمم المتحدة السويدي همرشولد الذي مات إثر تحطم طائرته عام ١٩٦١م في اندولا في زامبيا في أفريقيا (روديسيا سابقاً التي كانت تحت السيطرة البريطانية في ذلك الوقت)، حيث كان في رحلة يسعى فيها للمفاوضة في وقف إطلاق النار وإعادة السلام إلى الكونغو، ويجدر بالذكر أنه كان مسؤولاً عن إرسال وحدة قتالية للقضاء على الجيش الموزنبيقي، وحدث أن تفوق الجيش. فكان مسؤولاً عن حل تلك المسألة. وقيل أن طائرته لم تتحطم وإنّما تم تحطيمها بشكل متعمّد. ويتعلق الفلم بالبحث عن تفاصيل القضية والوثائق التابعة والأسباب الفعلية التي أدت لسقوط الطائرة.

-ولمن يود مشاهدة الوثائقي الأفضل عدم قراءة هذا الجزء- الذي حدث هو انحراف البحث في تفاصيل حطام الطائرة إلى سايمر SAIMR وهي اختصار لـ South Africa Institute for Medical Research الجهة التي قامت بإصدار التقارير الناتجة عن الحادث وتوقيعها، وكان دوماً ماينتهي البحث عند شخص واحد اتفق الجميع أنه يدّعي أنه طبيب ولكنه حقيقة منحرف عقلياً، وله عدد من العيادات في جوهانسبرغ، يوهم الفقراء (السود منهم) بأنه يستطيع علاجهم بمبلغ زهيد. عبر الوثائقي يتم التوصل لشخص يدعى الكساندر جونز، يظهر بشكله وصوته ويدّعي هو أيضاً -مع قدر وفير من المعلومات لديه- أنه كان من الصفوف الأمامية في هذه المنظمة، وأنها منظمة مدعومة عالمياً، وأن هذه المنظمة تنفيذية للسياسات العالمية التي ترغب بها القوى المحركة للعالم. مثل التطهير اللوني، فكان من أهداف هذه المنظمة وصول جنوب أفريقيا -بدءاً- إلى نسبة عالية للسكان البيض على حساب تطعيمات تقدّم بمبالغ زهيدة للسود عبر العيادات التي تم نشرها في أفريقيا، يتم فيها تطعيم السود بمرض الايدز، وهذه حقيقة: مات في أفريقيا ٢٠ مليون شخص بسبب مرض الايدز خلال الـ ٢٠ سنة الماضية فقط. المتحدث قال الكثير عن أهداف مختلفة قاموا بتنفيذها. -انتهى الجزء المتلق بأحداث الفلم-

هنا تراجعت قليلاً إلى الصورة التلميعية لكريستوفر كولومبس، وكيف تحول من قرصاناً إلى رحالة اكتشف أراض جديدة، وبالرغم من معرفة الغالبية العظمى لحقيقة كولومبس، إلا أنه مازال يتم تمجيده على أنه مستكشف ورحالة، بالرغم أنه ورجاله قاموا بأشنع الجرائم تجاه السكان الأصليين للأمريكينين. فلنتوقف قليلاً ونتخيل أن كريستوفر كان أسود البشرة؟

وبالنظر للقضايا العالمية مثل الهولوكوست واسرائيل وفلسطين وقوة الصين وروسيا بمقابل أمريكا، وإيران والشرق الأوسط وفوق كل هذه القضايا علو صوت المثليين اليوم والدعم العالمي السياسي لهم… الخ. كل هذه القضايا تتفق بالتضخيم الإعلامي، وكأنما فعلاً هناك محرك خارجي يدير التحركات في العالم الافتراضي ويتكفل الناس بالبقية، نعم هي نظرية المؤامرة ذاتها، وأعود حيث افتتحت هذه التدوينة، مالذي يمنع من أن يكون الكورونا فكرة حرب بيولوجية؟ مالذي يمنع أن السبب خلف الجائحة هو التطعيم الإجباري؟ ألم نعد بعد التطعيم أقل مناعة وأكثر تعرضاً للمرض؟ ألم تعد الانفلونزا تفتك بالمحيطين بنا بشكل لم تفعل بهم سابقاً؟ أحدثكم الآن وأنا قد عانيت هذا الموسم من العديد من موجات الانفلونزا، علماً أنني لا أشكو من ضيق تنفس أو تعب بالصدر أو أي أمراض مستعصية. هي مجرد فكرة ليس أكثر. الفكرة التي لايستطيع أحد تأكيدها أو دحضها: مالذي يمنعهم؟ وما دوافعهم؟ لكننا نتفق بكل تأكيد أن جشع الإنسان يجعله: “من يفسد فيها ويسفك الدماء”.

الحياة الطيبة

حصلت على رخصة القيادة منذ سنةونصف، كان تدريبي في صباحات الشتاء، ولازلت أتذكر مدربتي التي كانت تسألني في كل مرة عن إمكانية فتح الشباك للاستماع لأصوات الصباح، وتعلق متعجبة من الذين يفضلون الاستماع للأغاني، وكيف أن الصباح لا يبدأ إلا بصوت السيارات وصوت الهواء الناتج من سير السيارة في الطرق السريعة داخل المدن، صوت الناس وأحاديثهم، والحقيقة أنّي بداخلي أيضاً كنت أفضل هذه الأصوات والتفاصيل الصغيرة، وصباح اليوم كنت أفكر بهذا الأمر على وجه الخصوص، كيف نمارس يومنا، وكيف نرا ذواتنا بتفاصيل قد نهملها لأنها تظهر بشكل سطحي، مثل ألا يبدأ اليوم إلا بكوب قهوة، أو أغنية مفضلة، أو مكالمة شخص مهم، أو نشاط معين. كيف أنني لمدة طويلة جداً كنت أعتقد أن النجاح يرتبط بالانجاز وكيف أنه كلما ظهرت بالشكل المشغول دوماً والذي لايملك وقتاً حتى لنفسه يعتبر منجزاً ناجحاً، وكيف أنني في هذه السنوات تحولت أفكاري من خلال ماكنت أعتقد أنه استسلاماً والذي كان تسليماً للظروف المحيطة، والتي أنارتني وجعلتني فعلاً أسلط الضوء على التفاصيل، ويكون يومي في بعض الأحيان يتجلى في ممارسة نشاط رياضي، ثم فطور لذيذ مع من أحب، ثم اللعب مع أطفالي ونهايةً بمسلسل كوميدي أو درامي أو استكمالاً لرواية، وفي نهاية اليوم أعلم أنه كان يوماً مثالياً بغض النظر إن كان شاقاً أو سهلاً، لكنه كان ممارسة لنشاطات أحبها، وبالمصادفة أقرأ للبنى الخميس هذه التويتة التي تقول فيها:

لا تستغرب إن وجدت [الحياة الطيبة] التي تبحث عنها بسيطة في ظاهرها، عميقة في تفاصيلها وتأثيرها، من كوب قهوتك إلى موعد رياضتك إلى سكينة خلوتك، إلى مجالسة أشخاص يشبهون روحك.

فعلاً إن الحياة الطيبة التي يطمح لها الانسان قد لاتكون إنجازاً ضخماً أو قد تكون، ولكن الانجاز الحقيقي هو الاحساس البسيط خلف هذا الانجاز، هي التفاصيل الصغيرة التي يمارسها خلال حياته اليومية، الشخصية أو العملية، كل ذلك يتجلى في تركيزه أو عدم تركيزه على السلبيات والايجابيات التي تواجهه. فمهما بدأ يومك، تستطيع أن تنهيه ليكون جزءاً من حياتك الطيبة. دمتم بخير.

وقتي الخاص

أنهيت تمارين اليوم سريعاً، على الرغم من أن الوقت المخصص للتمارين ثابت ويقاس بنصف ساعة من غير انقطاع، إلا أنّي انتهيت على غير العادة في الخامسة تماماً، فيبدو أنّي حضرت أبكر بقليل، وأيضاً على غير العادة فالسائق لاينتظرني، مع أنّي استخرجت رخصة القيادة منذ أشهر لكنّي حتى اليوم لم أمارس القيادة إطلاقاً، فالقيادة ليست هدف بحد ذاتها، وإنما وسيلة، لذا وحتى الآن لم أقم بتفعيلها. جلست على كرسي انتظار خارجي أمامه ممشى طويل، وصرت أراقب جموع الناس يمارسون عادة المشي استغلالاً لآخر فترات الصيام قبل أذان المغرب وتناول وجبة الإفطار، ولأنني في هذه الفترة أحاول أن أتخلص من الرغبة العارمة التي تعتريني عندما أكون لوحدي في مكان عام فأبحث عن من يسليني خلف الشبكات، وإن لم أجد فأشارك صوراً أو ماشابه للمكان، أو حتى أحاول التسلي بقراءة أو أعمال عبر اللابتوب، فكان الهدف هذا الاسبوع هو الانفراد بالذات وسط الجماعة، فصرت لاشعورياً أبحث عن من يمشي وحيداً، ولاحظت -قد تكون مصادفة- أن الزحام فرادى، وكأن الجميع أتوا وحيدين يستمتعون بذواتهم، وصرت أتخيل تلقائياً وجودهم بمقهى أو مطعم، وأتعرف على نسبة المنسحبين منهم. قاطع أفكاري وصول سيارة السائق ليقلني إلى البيت.

منذ تلك الساعة وحتى الآن، مررت بالعديد من الأحداث الروتينية المنزلية، مثل تجهيز وجبة الفطور، وحل نزاعات أطفالي، وإتمام لوحة سريعة وإرسالها للطباعة، وتجهيز العيديات، والكثير من المهام التي تشغل الوقت وتجعلنا ندخل زوبعة الحياة. وبعد أن انتهيت من أغلب المهام، عدت للتفكير الممشى المزدحم بالفرادى، بالمقاهي والمطاعم الممتئلة بالأزواج والعوائل، وبنظرة خاطفة انتبهت لأظافري، وأنا أحب أن أراها ملونة، وهنا انتبهت للخدعة التي يغفل عنها الكثير منّا، وهي أن مانحب هو مايجعلنا نرى جمالنا، فالفكرة قد لاتكون بحث عن سعادة أو تصالح مع الذات أو حتى وصول لهدف، هي فقط رغبة داخلية عندما نمارسها تجعلنا نرى الجمال فينا. فمن يمشى لوحده هو يرى أنه يخفف وزنه بالتالي يرى جماله من خلال رشاقته، أو قد يكون يستمع لآيات قرآنية أو برودكاستات مفيدة تجعله يرى جماله عبر تدينه أو تثقفه. ومن خلال هذه الفكرة عدت للوراء سنوات، فزيارة لصالون التجميل، أو تغيير لون المناكير، أو قراءة رواية، أو إتمام رسمة، أو ممارسة الخبز، كلها أمور تصنفني داخل ذاتي بتصنيف أراه جميلاً بالتالي يجعلني أحبني أكثر بكل بساطة وما يزيد من محبتي لنفسي، هو مايجب أن أقوم به، وهو مايجب أن يدخل ضمن نطاق وقتي الخاص.

أهلاً بألواني

هنالك قصة قصيرة أحكيها لابنتي قبل أن تنام، عن أميرة في قصر ضخم تحب اللون الوردي فقط – نظراً لأن ابنتي في فترة من فترات نموها أصبحت تود لو تحولنا للون الوردي من شدة إعجابها بهذا اللون- وهذه الأميرة ترفض أي لون آخر، إلى أن تعب هذا اللون وقرر الهرب وقت نومها، وعندها تحولت جدران غرفتها إلى لون أحمر، وملابسها إلى متعددة الألوان، وسريرها وكل شي، و عندما استيقضت غضبت جداً، وصارت تقول أنا أكرهكم أيها الألوان، ثم حزنت كثيراً، ولم تنتبه أن الألوان أيضاً هربوا منها، وتحول كل شيء إلى الأبيض الباهت. عندها علمت الخطأ الذي اقترفته وذهبت للغابة لتبحث عنهم حتى وجدت كوخ صغير مليء بالألوان فعلمت أنهم بداخله، اعتذرت منهم وقررت الاعتدال في استخدام الألوان، بالرغم من تفضيلها اللون الوردي، لكنها ستستخدم ألوان أخرى.

هذه هي القصة المفضلة لها. فقبل النوم أصبحت “تشيك” على أدواتها الوردية، بالرغم من أنها لاتصرح بذلك، خوفاً من هروب الألوان منها.

في هذا الوقت أنا لم أفعل، حتى هربت مني الألوان ذاتها، بات كل شيء باهتاً ويفتقد للروح التي كانت تنعشه، هرب الشغف وهربت الحياة. منذ تلك المدة وأنا أحاول البحث، ليس عن الألوان طبعاً، إنما عن الروح المنعشة التي ستجعلني أعيد النظر، ففي كل شغف جديد، أجد أحدهم يحاول تصيّد هذا الأمر ليجعله تافهاً وغير جذاباً كما كان، في كل رغبة جديدة، يأتي آخر ليقتلع جذورها قبل أن تبدأ بالنمو، حول كل ذلك، صرت أفكر، كيف سمحت لهم؟ كيف تتهاوى هذه الرغبات قبل أن تظهر؟ لم أجد جواباً، لكني مع الوقت آثرت الاهتمام بمشاعري تجاه الأشياء، فقررت أن أتخلص من تتبع تفاصيل حياة الآخرين على السوشال ميديا، قررت التخلص من محاولة نقل طموحاتهم ورغباتهم لتصبح رغباتي، وذلك لأني صرت ألحظ أن منحنى المشاركة على السوشال ميديا يتغير، بدأت عناصره تتثاقل علي، تحول من كونه وسيلة لطيفة لمشاركة المشاعر واللحظات المميزة، إلى وسيلة للتباهي ومحاولة “توضيع” على مستوى شخصي -إن وفقت بترجمة كلمة بوزشننق- فبالنسبة لي أصبح اسلوب تصنيف، فقررت عدم متابعة أخبار الآخرين، وألغيت كافة تواصلي “سوشاليازياً” مع أي شخص أعرفه، فالمقربين يفترض أن أعرف أخبارهم منهم ذاتياً أو عبر الآخرين المقربين منهم ذاتياً، وليس من صور أو كلمات يشاركوننا إياها.

هل جعل ذلك الألوان تهرب مني؟ لا بل هو طريق أشهب تخلوه الألوان يفضي لحديقة خلابة. بعد عدة سنوات من بقاء هذه التدوينة على رف المسودات، أعود اليوم وبكل ثقة لأقول لا. بل على العكس، انتعشت ألواني من جديد، ووصلت لمرحلة زاهية، متزنة، مصدرها أصيل ينبع من ذاتي للعالم. وأزهر الشغف من جديد، في كل شيء، من الاهتمام بالمنزل الى التربية الى العمل الى الفنون الى الموسيقى الى الحياة بكل مافيها. تخليت سابقاً من التعلق بأرقام المتابعين، عن حشو مخي بمعلومات وذكريات لاتخصني، وعدت للسوشال ميديا من جديد، عدت وأنا أعي أنها مجرد أدوات تسهّل الحياة. فكما كنت أصرخ باندفاع سابقاً أقول أنني محور الحياة، أكررها اليوم باتزان وبدون ردة فعل. بي تكمن الحياة. فأهلاً بألواني

وكل مما يليك

يقول الرسول ألف الصلاة والسلام عليه: “ياغلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك”، كأم في منزل فيه ثلاث أطفال أكبرهم بسن السابعة، يتكرر هذا الحديث كثيراً وقت الاجتماع حول المائدة، بداية بعد وضع الطعام، نسمّي، ويذكّرون بعضهم بعضاً وقد يذكروننا أحياناً، ومن ثمّ تطبيق الأمر الثاني وهو التذكير بالأكل باليمين، ونظراً لأن لكل منهم صحنه الخاص أتجاهل الأمر الثالث “كل مما يليك”. وهنا تبدأ المراحل الخاصة بهم والتي يسيطر عليها مراقبتهم لبعضهم، فيتحول الأكل إلى مسابقة يودّ الجميع الظفر بالمركز الأول، على الرغم أنّي يوماً لم أكافئ الأول، ولم أعاقب الأخير، واهتمامي يقع على إنهاء الطعام وعدم إبقاء بقايا بالصحن إكراماً للنعمة التي أنعم الله بها علينا. ولكن عملية المراقبة وتصيد الأخطاء على الآخرين تكاد تكون المسيطرة خلال الأكل، فكل منهم يراقب الآخر وينتظر أن يأكل الطبق الرئيس قبل السلطة، أو أن يقفز للحلوى قبل إنهاء الوجبة، أو في حالات نادرة أن “يلمس” الهدية المصاحبة للوجبة.

قد تكون مجرد مناوشات أطفال. لكني للتو “اهوجس” وانتبهت أنها ليست مقتصرة على الطفولة، وليست مقتصرة على وقت الأكل، وإنما هي عادة داخلية يمكنني تجاهلها وقد تكبر معهم أو تختفي مع الوقت، لا أحد يعلم؛ لكن ما أعلمه يقيناً هو أن المنافسة في الحياة مستمرة، وأن تقييم الذات يصاحب الشخص إما لترفيعه أو لتحجيمه، وهذا التقييم مرتبط بمراقبة الآخرين ومقارنة ذاته بهم وتصيد الأخطاء إما عليهم في الأولى أي الترفيع الذاتي أو على ذاته بجلدها في الثانية أي تحجيمها، وهنا أيقنت أن تربية الأطفال هي صعبة ليس لصعوبة تعليمهم الصواب من الخطأ وإنما لأنها تنشئة مسلمات داخلية عميقة من خلال الحياة اليومية التي يعيشها الطفل، ودور المربي ضخماً في الانتباه لتفاصيل هذه الحياة، وتفاصيل التصرفات التلقائية التي هي مسلمات في طور النشئ والتي يمكن في هذه المرحلة من مراحل حياة الطفل توجيهها وتصحيحها.
أطفالي اليوم يراقبون بعضهم بعضاً وهذا أمر جيد، لكن لابد من إيجاد طريقة تساعدهم على الاستفادة الذاتية من هذه المراقبة، من التطوير الذاتي بناء على هذه المراقبة، على النقد البناء الذي يجعل التركيز الذاتي هو النقطة التي ينطلق منها النقد وليس العكس.

وأكتب هذا الموضوع ومازالت تعلو الأصوات: ماما، سليمان شرب العصير وما خلص البرجر، ماما لبنى أخذت اللعبة وهي ماخلصت….. والردود التلقائية كانت من قِبَلي -وأنا أكتب-: “كل أحد مسؤول عن أكله” أو “لا أحد يراقب غيره إلا لما يخلص”. وتغافلي عن التوجيه الثالث من توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم “كل مما يليك”. الذي أعلم الآن بعد أن أنهيت تقريباً هذا المقال أنه تلخيص لكل ما قلته، فهو قد يبدو توجيه مباشر لمن يأكل مع الجماعة بأن لايتجاوز جهته، لكنه توجيه غير مباشر لمن يأكل منفرداً بسفرة جماعية أن يولي انتباهه على الذي يليه فقط ولا يعير انتباهاً لما هو مع الآخرين أو حتى مايفعله الآخرين. فهو رسالة حياتية مهمة جداً ومسلمة يجب أن تكون راسخة ومتأصلة.

انسلاخ العلاقات

في أحد المساءات في الأيام السابقة، يصرّ ابني الأوسط (ثلاث سنوات) على أن السلحفاة كائن مخيف ومؤذي ويطلب منّي ومن والده أن نطمئنه على قدرتنا بحمايته منها، ومن خلال محاولتي لطمأنته، وجدتنا نتفرج على الصور لرحلاتنا الماضية، وجدنا صوراً لنا مع سلاحف معمرة نطعمها ونجلس بجوارها، وشملت هذه الصور على أصدقاء قدامى لابنتي الكبرى التي علّقت متعجبة من عدم تذكرها إياهم، ولمَ لم تستمر علاقتها معهم. وصارت تلوم عدم وجود طرق للتواصل نظراً لكونها انتقلت من مدرستهم.

ومن هنا صرت أفكر بصحة كلامها، نعم أتفق أن عدم وجود وسيلة للتواصل تنهي العلاقات، لكن هل يجب أن تستمر العلاقات، أتذكر دوماً كلمات لصديقة لي: الانسان خُلق ليتغير وليتطور، وإن ظل على حاله فهذا دليل مشكلة تواجهه. وأتفق كلياً معها، فالانسان يمر بمراحل عمرية متعددة، ومراحل فكرية أيضاً متعددة، في كل مرحلة يجد من يؤنسه، والمؤانس قد يكون صديقاً، زوجاً، ابناً أو أياً كان، حتى عملاً أو روتيناً، ومن خلال انتقاله لمرحلة أخرى من مراحل حياته فإنه يغيّر متطلبات المؤانس مما قد ينهي العلاقة بدون ضرورة انتفاء سبل الاتصال. طرق السير بالحياة تتغيير وتتبدل، والحياة تستمر

وصورة السلحفاة المخيفة التي تتشكل بذهن ابني، ماهي إلا التخوف من الانتقال المرحلي الذي يمر به، والذي يجعله متعلقاً بي رافضاً الانعطاف، أو ربما راغباً بالانعطاف وراغباً بأن أنعطف معه وأرافقه مسيرته. هو ذات التخوف الذي يواجهنا عندما نبدأ بفقدان القدرة على الاتصال المعنوي مع من هو رفيقنا بهذه الحياة، فإما أن نتشبث بدون معرفة بمجريات التغييرات وتنتهي العلاقة، أو نتبه للتغيرات الطارئة ونتشبث بدراية ومعرفة بأنه لاشيء يدوم وأن الحياة رحلة قد تكون مع السلحفاة المخيفة أو مع مصادر الأمان.

اختار أن أكون سعيدة

تسألني لبنى (بنتي ذات الست سنوات) بعد أن عضّت على لسانها بالخطأ: ” ليش ربي يخلينا نتصرف تصرفات ماتعجبنا، ليش يسمح لنا نعض على لساننا ويعورنا، ليش يسمح لنا نسوي شي شرير لأنفسنا؟!” وهذه الفكرة ليست غريبة أو عجيبة، بل هي مشكلة فلسفية عويصة منذ الأزل، وكانت أحد التوجهات التي أدت لنفي وجود الإله، باعتبار أنه يوجد شر، والاله خير،وكانت النتيجة المنطقية أنه لايوجد إله، تطورت هذه الأفكار وتغيرت وكانت تصل لنتائج مشابهة. ونظراً لكوني فكرت مسبقاً بهذه الفكرة وتأملتها كثيراً فكانت النتيجة التي توصلت لها بأن الله حينما أنزل الشيطان للأرض، ميز الانسان بالعقل، ولم يمنع عنه الشر، لكنه أمره بفعل الخير واجتناب الشر، والانسان من ولادته حتى يكبر، لابد أن يكون واعٍ وقادر على التمييز بين الخير والشر، بين الصح والخطأ، بكل بساطة أتاح الله للانسان الاختيار، وضع أمامه الخير والشر، وجعله قادراً أن يختار.

ولكن كما ذكر ابن سينا، فالشر كما صوّرته لبنى، هو يتحدد بالمقابل، فعندما نحدد أن مطلق القتل شر، فقتل القاتل بالنسبة لأهل المقتول، من العدل والخير وليس من الشر. وعلى هذا يتلاشى الفرق بين الخير والشر، وتتلاشى قدرة التمييز بالمنطق، وهنا يقع الخطأ الأعظم، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في مواضع متفرقه في القران أن مكان التمييز هو القلب لا العقل، أن القدرة العقلية موضعها القلب الحي. لذا فإن تمييز الخير هو من الايمان من الصعب اثباته، ومن الصعب اقناع الاخرين به.، لأنه لايسير على تسلسل منطقي يمكن للمخ البشري ادراكه، لكن بالنسبة لقلب طفل صغير، فهذا الأمر هينّ.

وخلال تسرب كل هذه الأفكار والتفكر فيها ملياً توصلت إلى أنه مثلما نستطيع تمييز الخير، نستطيع تمييز السعادة على اعتبار أنها بعض من الخير، فبالرغم من وقوع الأمور السيئة التي قد تكون من الشر و التي قد لا يمكننا التحكم بها، إلا أن ردود أفعالنا هي ملك كامل لنا، وهي الاختيار الخيّر الذي أوجبه الله علينا، فمثلاً على ذلك، إن وقوع أحد مسببات الحزن لايتنافى مع اختيار السعادة، وأن اختيار السعادة كطريق في الحياة لايعني أن يكون الشخص مبتسماً دوماً، لكنه يعني أن يكون على فطرته، أن يعيش بقلب حي. بقلب طفل قادر على التمييز. ويضيف عليه، أنه قادر على الاختيار.

13 reasons why

عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، زحل -أبي أعيش ان شالله بكوكب زحل تراي-، المشتري، اورانوس، بلوتو. بدلاً من قصة قبل النوم اختارت ابنتي -ذات الخمس سنوات- أن تسمّع أسماء الكواكب بالمجموعة الشمسية، بالرغم من وجود خطأ واحد بترتيبهم، فالمشتري يسبق زحل، إلا أن الفضل بعد الله يعود لليوتيوب، حيث يجيب على أسئلتها بشكل بسيط وبدون تعقيد. وكان السؤال دوماً، كيف نستطيع زيارة الفضاء؟ هذا السؤال الذي كانت إجابته بالنسبة لي توجّه ضخم لم يتماشى مع الظروف المحيطة، فعندما علمت أنّ زيارة الفضاء تستوجب دراسة وعلم صرت أودّ أن أصبح رائدة فضاء، والجميل في الطفولة هي أن الحواجز لاتكون موجودة، فعندما يفكر الطفل فهو يُبدع بما تعنيه الكلمة من معنى، فدوماً كنتُ أنصح الشركات عندما تودون القيام بحملة ضخمة وإبداعية وخارجة عن المألوف، استدعوا أطفالاً لجلسة البرين ستورمنق، واجعلوهم يلقون بأفكارهم لكم وبعد ذلك غلفوها لتصبح تحت إطار ممكن التنفيذ. وذلك أن عقولهم بلا حواجز. بعدْ!

الماضي يعود في سؤال لبنى ورغبتها بزيارة الفضاء، ولكن لصغر عمرها فلم أوجهها، فإن كنتُ أحاول أن أتجنب أمراً بالتربية فهو التوجيه المباشر لما أعتقد أنه صحيح، فاليوم نعيش تغير كبير جداً بالمفاهيم، وصدمة جيلي وجيل من هم أكبر مني بقليل كبيرة، فهنالك مسلمات عشناها بدأت بالتبدّل. فالتوجيه التربوي أكبر خطأ قد يقع فيه الأهل، ومسؤوليتي كأم تتلخص في تعليمها كيف تبحث عن الإجابات، أوجهها لكيفية التعلم وليس تعليمها، أعلمها كيفية توجيه الذات، تنمية الحدس، وإحياء القلب، فالقلب الحي يعلم كيف يميز الصواب والخطأ في مجتمع بدأت تزول معالمه. وأعمود مجدداً للفضاء، وهذه الرغبة المتجددة التي تعود بعد أن اختفت لـ ١٥ سنة، هذه الرغبة كانت دافعاً لي خلال المرحلة المتوسطة والثانوية، كنت قد رسمتُ خطاً واضحاً، أودّ أن أتخصص بالفيزياء -نظراً أنه أقرب تخصص متاح يناسب المجال- ثم انتسب لناسا ثم أذهب للفضاء، وبدأت تتموج الخطة شيئاً فشيئاً، ليس لعدم قدرتي فقد كانت أقل نسبة -وقت الاختبارات النهائية والوزارية- حصلت عليها هي ٩٨.٥٪؜ خلال مسيرتي العلمية، فالقدرة ليست هي الحاجز هنا، ولكن كانت المشكلة في عدم معرفتي وقت التخطيط بالحواجز التي لاتتزحزح والتي يمكنها أن تحوّلني إلى معلمة فيزياء بالنهاية، وليس هذا تحقيراً لمعلمات الفيزياء، ولكن حتى تخصص الفيزياء ليس رغبتي، إنما مجرد وسيلة للوصول لرغبتي الحقيقية التي بدت لحظة انجلاء الحقيقية خيالاً بحتاً. وبعد أن تخرجت صرت أفكر بواقعية أكثر وكانت اختياراتي بين الحاسب والفنون والطب -تحقيقاً لرغبة والدي- وبعد قبولي قدمت انسحابي وتوجهت للحاسب الآلي.

وهنا سيرتبط موضوع التدوينة مع عنوانها، الذي يتحدث عن مسلسل بُني على رواية لفتاة اسمها هانا بالمرحلة الثانوية والتي تقرر إنهاء حياتها وتترك خلفها تسجيلات لـ ١٣ كاسيت تبرر فيها الأسباب التي جعلتها تنهي حياتها، تلوم بها أشخاص عدّة تنمروا عليها وكانوا سبباً في اتخاذها هذا القرار.

لحظة انتقالي من المستوى الثاني للثالث بفترتي الجامعية، أيقنت حقائق عدة، وكان المجتمع يمارس تنمّره علي بكل ماأوتي من قوّة أو بالأصح وكأنما كنت أليس حين انتقلت لأرض الواقع، كل شيء بات مملاً وبارداً وقاسياً وكل رغبة محفزة طريقها مسدود. فصرت أكتب خلال المحاضرات في آخر الدفتر أسباباً من شأنها أن تبرر لفتاة سعودية إنهاء حياتها، طبعاً لم أكن أفكر بذلك، لكنّي خلال محاضرات البرمجة -التي حصلت في نهاية الترم على D بها، والتي في المستوى السابق هي الجزء الأول منها كنت حصلت على A+- كنت قد كتبت أكثر من ١٠٠ سبب يجعلنا لانكمل حياتنا كفتيات سعوديات، كنتُ أرى لأول مرة ولأول وهلة التنمر ورغبة المجتمع بالسيطرة عليهن. وفي نهاية الترم ألقيت بالدفتر بسلة المهملات، وقررت لحظتها أن لا أقف أمام التيار، لكي لا يجرفني.*

هوالفرق هنا بيني وبين هانا، أنها ظلت ترا أنها محور الكون، وظلت تعيش تحت مظلة الشخص الذي يعتقد أنه أفضل من هذا العالم المُقيت الذي يعيش بداخله، ظلت واقفة ومُصرّة الى أن اجترفها التيار وأحرقتها نار أفكارها. فالقائمة موجودة، وأياً منّا يستطيع أن يكتب حتى أكثر من ١٠٠٠ سبب يجعله ينهي حياته، يتغلغل بداخل الأسباب ليحوّل حياته -بنفسه- إلى جحيم. لكن الذكاء حقاً هو أن الوعي بأن النجاح ليس برسم خطة والوصول، وإنما برسم خطة ومحاولة الوصول. فالحياة ليست لحظة الوصول وإنما هي مجموع المحاولات التي صرنا نحاول الوصول فيها، حالات الفشل والنجاح المتذبذبة هي التي تصف ما سنصل له، ما سنصبح عليه. الذكاء هو أن يكون القلب حيّاً مؤمناً بأنّ الاستسلام ليس دوماً ضعف، وأن عدم المقاومة قد تكون الحل الأمثل في بعض الأحيان. معرفة أن المسلمات، أن البديهيات، يُعاد تشكيلها، تتجدد، لتكوننا في كل يوم، لتدلنا خلال محاولة الوصول.

________________

* تشعبت هذه التدوينة كثيراً نظراً للبعد التاريخي الذي تحمله.