عندما لا تتحرك الجمادات

أمضيت أسبوعاً أراقب جماداتي، حذائي الذي أخلعه في غير مكانه والذي يظل في المكان ذاته بعد مدة من الزمن ولايعود من تلقاء نفسه لمكانه في الخزانة، شنط المدرسة لأطفالي والتي تبقى بجانب الباب الخرجي، الأواني المتسخة على طاولة الأكل والتي أيضاً هي الأخرى لا تعود للمطبخ، بل وحتى النظيفة منها التي لاتقفز خفية من غسالة المواعين عائدة لأماكنها في الأدراج. كل هذه التفاصيل الصغيرة للجمادات التي بطبيعتها لا تتحرك، المنطقية جداً، كانت منافية للمنطق، بل وأستنكرها لوهلة زمنية قصيرة تليها دهشة وابتسامة ساخرة وكأنّي أقول بداخلي: يفترض أن أندهش وارتعب خوفاً لو فعلا ًتحركت هذه الجمادات، لكنّي في ظل غياب العاملة في بيتنا، صرت أندهش عندما لا تتحرك الجمادات حقاً!

خلال هذه الأفكار استرجعت مسلسلاً في نتفلكس، تحت اسم: Maid، مكوناً من عشر حلقات، عن أم عشرينية لطفلة ، تهرب وابنتها من صديقها السكّير المعنف لها، حيث أن مصدر رزقها هو العمل كمنظمة للمنازل. المسلسل من إنتاج نتفلكس يحكي عن حياة أليكس راسل تقوم بدورها سارة كوالي، وقد رأيتها لأول مرة على شاشات السينما في الفلم الغريب جداً بالنسبة لي، Once upon a time in Hollywood، حازت على جائزة الايمي لأفضل ممثلة لعام ٢٠٢٢. تبدأ أليكس العمل كمنظفة منزلية لإنقاذها وابنتها من التشرد.

يستند المسلسل إلى مذكرات ستيفاني لاند، بنفس العنوان ( Maid: Hard Work, Low Pay, and a Mother’s Will to Survive ). وقد تم إصدار الكتاب في عام 2019 ووصل إلى قائمة نيويورك تايمز لأفضل الكتب مبيعا. على الرغم من تغيير الأسماء للمسلسل، إلا أن الحبكة هي نفسها إلى حد كبير. مثل أليكس، بدأت ستيفاني العمل كخادمة لإعالة نفسها وطفلتها بعد فرارها من علاقة مضطربة. أمضت ستيفاني وستوري 90 يوما في مأوى للمشردين، تكافح من أجل العثور على عمل وغير قادرين على الحصول على منحة رعاية الأطفال نتيجة لبطالتها.

ذكرت ستيفاني عن مذكراتها: “في الكتابة، كنت آمل أن يغير الكتاب الوصمات التي تحيط بالأمهات العازبات، وخاصة أولئك الذين يعيشون في فقر. الوصمات التي تقول إننا نستحق المشقة بطريقة أو بأخرى بسبب القرارات الرهيبة التي اتخذناها للوصول بنا إلى هناك. كنت آمل أن يرى الناس مدى صعوبة عملنا لتغطية نفقاتنا، ومدى حبنا الشديد لأطفالنا. كم نكافح من أجل أن نكون كافيين بينما توبخنا الحكومة، وتخبرنا أننا أصبحنا نعتمد على الأشياء التي يسمونها صدقات، لكن نسميها وسائل للبقاء على قيد الحياة. آمل أيضا أن تبدأ في ملاحظة ملايين العمال الذين ينظفون بشكل خفي بحد متدني جداً للأجور”.

وفعلاً، بالرغم أنّي قد انتهيت من مشاهدة المسلسل مطلع هذه السنة، وتأثرت لحد ما به، نتيجة الاخراج الرائع والتمثيل والانتاج، إلا أنّ العبارة الأخيرة التي ذكرتها ستيفاني ظلت تلاحقني في الفترة الماضية، فكم هو مخيف الاعتياد، اعتياد الوجود أو اللاوجود، أن يكون الأثر هو الفاصل في وجودك، هو الاثبات على عملك وليس ذاتك، وهذه الفكرة المخيفة لاتقتصر فقط على الخدم بل تمتد لكافة أنواع العمال والموظفين، فأنت مجرد رقم للجهة التي تعمل بها، واثرك هو الفعّال والذي يمثّلك، حتى مع محاولة أنسنة الجهات وتحويل الإدارات لفرق عمل، وعوائل، يبقى الموظف لاوجود له بدون عمله، وهنا يبدأ الاضطراب، وتتخبط الحقائق، ويصبح التفكير بحركة الجمادات مخيفاً بل ودليلاً على جماد الانسان وقلة وعيه.

فهل الجمادات هي فعلاً جامدة وغير متحركة؟ أم نحن اعتدنا على جمودها؟ وماذا لو كان هذا العصر هو عصر حركة الجمادات؟ هل سنعتاد على ذلك ياترى؟

الإعلان

اكتب تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s